يجد الإسلام كدين تعبيره في النص القرآني، إلا أنه من الوجهة التاريخية لا يرتبط الإسلام بظهور النص القرآني وتشكله وذلك بتأكيد النص القرآني نفسه حين يضفي صفة الإسلام
على شخصية سبقت تشكل النص القرآني في القرن السابع الميلادي. وهو النبي إبراهيم حيث جاء في سورة آل عمران الآية 67 «وما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما».
وإذا كان الدين يعني مجموع الممارسات والطقوس المرتبطة بمعتقد ديني معين، فإن الآية تنفي عن إبراهيم الصفة الدينية المرتبطة بالممارسات والطقوس اليهودية والنصرانية وتؤكد طبيعة العقيدة الصحيحة التي تحدد العلاقة بين إبراهيم والمقدس «الله» والمبنية على الإسلام.
وإذا كان النص القرآني قد أوضح أن الإسلام وحده الطريقة المرتضاة للإنسان «ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه» (آل عمران : 85)، فإن كلمة «الإسلام» بناء على ما سبق تخرج من كل سجن تاريخي لأنها ملازمة للإنسان في علاقته مع الله عز وجل ومع ما يميز هذا الإنسان من تنوع ثقافي وحضاري تبعا لنوعية التجارب التاريخية التي خاضها، ولهذا فالإسلام مرتبط بفلسفة الوجود الإنساني ككل، تلك الفلسفة التي تقتضي من الإنسان أن يتجرد من أي خضوع لغير خالقه، وهذا التجرد له أكثر من دلالة في سياق سعي الإنسان الحثيث لاستعباد الطبيعة وتسخيرها لنفسه عبر جدل إيجابي معها يكون الإنسان فيه السوط والصولجان، ذلك أن فعالية الإنسان في التاريخ وتفرقه على الطبيعة يمر أولا عبر عقلنة رؤيته لنفسه ثم لموقعه في الوجود. إذا ففاعلية العقل هي المطلب الأساسي للإسلام لأن هذا الأخير يكون آنية الإنسان في التاريخ باعتباره ملازما له في حاضره المتجدد باستمرار بفاعله العقلي، ولذا فإن النص القرآني لا يكل ولا يمل من التأكيد على وجوب إعمال العقل، بل إنه كثيرا ما يقترب من تجريد كل من يملك عقلا معطلا و راكدا من صفة الإنسانية ليتحول إلى جزء جامد من الطبيعة يدخل بتلقائية في دائرة الخاضع للإنسان العاقل.
هذا عن الإسلام، أما التراث العربي الإسلامي فهو كل ما خلقه العرب المسلمون من إنجازات وإنتاجات تعكس جهازا من المفاهيم والقيم والمعتقدات والتقاليد التي تحدد سلوكا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا... أي أن التراث العربي الإسلامي هو تجربة العرب المسلمين السابقين في التاريخ، وما تتضمنه هذه التجربة من تفاعل مع الطبيعة من جهة ومع النص القرآني من جهة ثانية.
تجربة لاشك أنتجت حضارة لها مميزاتها الخاصة في سياق الإنتاج الحضاري الإنساني، والأكيد أن التراث العربي الإسلامي قد دخل مع «الإسلام»، في علاقة معقدة ربما جعلت الفكر العربي الإسلامي المعاصر رهين هذا التعقيد، فأضحى معه الفرد العربي المسلم سجين تراثه وكأن العربي «المسلم» قد كتب عليه دون البشر كافة أن تسير قدماه إلى الأمام بينما يلتفت رأسه إلى الخلف.
لقد أصيب العقل العربي الإسلامي منذ قرون مضت بآفة «الاختزال» بما في ذلك تعامله مع كل من «الإسلام» والتراث، ولن يكون هذا الاختزال إلا ترجمة لجمود هذا العقل وكسله في التمييز بين طرفي المعادلة المبتدعة (الإسلام = التراث العربي الإسلامي)، ومعنى ذلك أن التراث العربي الإسلامي خرج من دائرة الإنتاج البشري إلى دائرة المقدس الذي لا يقوى العقل على تمثله وبالتالي يفقد الحق في أن يجادل حول طبيعته أو كنهه.
كانت بداية التوحيد بين «الدين» و«التراث» بإدماج السنة النبوية في «الدين الإسلامي» يتقيها الأول المرتبط بالتزام السنة حدود شرح ما يتضمنه النص القرآني والثاني المرتبط بسلوك رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنظومة الثقافية العامة لشبه الجزيرة العربية خلال ق. 7م.
لقد كان إدماج «السنة النبوية» بشقيها في «الدين» إذا هي البداية لتتلاحق سلسلة الإدماجات التراثية بدءا بعصر التدوين أي عصر بداية وضع أسس وقواعد الذاكرة الجمعية للأمة «الثقافة» وذلك ما ابتدأ مع صياغة الشافعي (150ه-204ه) في مجال أصول الفقه... ومع مفهوم «الوحي» يشمل القرآن والسنة بشقيها، تم إدخال الإجماع في مفهوم السنة، ليقتصر بذلك دور العقل في مجال «القياس» المقيد ب«الأصل السابق». وهكذا بدأت المعرفة تنتج في الثقافة العربية الإسلامية على أساس سلطة النصوص على حساب سلطة العقل الذي أصبح دوره محصورا في توليد النصوص من نصوص سابقة.
إن اختزال التراث العربي الإسلامي في «الإسلام» يعني صياغة الحاضر من قبل الماضي، في حين أن تفعيل سلطة العقل تعني بالمقابل قدرة الحاضر على صياغة القوانين والقواعد التي تناسبه، فيصبح التراث العربي الإسلامي ملاذ الفرد العربي المسلم من آفات الزمن وحركة التاريخ.